ﻗﺎﻝ ﺃﺣﺪﻫﻢ ﻓﻲ ﻭﺻﻒ ﺃﻣﻪ: ” ﻛﺎﻧﺖ ﺗﺮﺗﺐ ﻛﻞ ﺷﻲﺀٍ ﻟﻠﻤﺴﺘﻘﺒﻞ، ﺗﻔﻜﺮ ﺩﺍﺋﻤًﺎ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺎﺩﻡ، ﻭﺃﻛﺎﺩ ﺃﺟﺰﻡ ﺃﻧﻬﺎ ﻟﻮ ﻋﺮﻓﺖ ﺑﻤﻮﻋﺪ ﻣﻮﺗﻬﺎ، ﺳﺘﺠﻬﺰ ﺍﻟﻤﻨﺰﻝ ﻟﻠﻌﺰﺍﺀ ﻗﺒﻞ ﺃﻥ ﺗﺬﻫﺐ “. كم تنطبق هذه العبارة على أمي
من مراحل مرضها ” الذهان ” كان هوس ترتيب أيامنا وأحداثنا..
هذا المرض كان سلاح ذو حدين.. منشار كل أسنانه حادة.. لأم كلما حاولت ان تقوم بدورها تجاه أبنائها وكل محاولة لها تجرح..
أذكر عندما كنا في المدرسة..
كانت تهتم بجدول الحصص كثيراً..
كانت تعلق جدول الحصص على كل جدران البيت..
حتى لا تنسى أي كتاب أو دفتر وتعود وتراجع الجدول ألف مرة..
كنا نتجنب إخبارها عن مواعيد امتحاناتنا.. لأنها كانت لا تتردد بالاتصال بكل جارات الحي الذين نتشارك مع أولادهم نفس الصفوف.. لتسأل عن الامتحان والصفحات المقررة..
لدرجة ان كثيرا من جارات الحي كانوا يفصلون قابس التليفون الأرضي لكثرة ازعاجها لهم..
وعندما شعرت بإخفائنا عنها تفاصيل امتحاناتنا..
اصبحت تخرج إلى بيوتهم ولو كان منتصف الليل حتى تأخذ المعلومات..
كنا بمنطقة كل سكان الحي يعرفون بعضهم وبجنسيات مختلفة..
جميعهم ريطتهم سيرة واحدة هذه السيدة التي لا يعرف ما هو مرضها وشكواهم منها..
هي نفسها السيدة التي كانت صديقة لهم وكانوا يعرفونها جيدا قبل مرضها.. كانت تسهر معهم وتضحك معهم.. لكنها لم تعد محط قبولهم بعد أن فتك بعقلها هذا المرض اللعين..
صارت أمي مصدر الخراب لهذه الجلسات.. كنا في شهر رمضان الفضيل لا يخلو منزلنا من العزائم اليومية لكنننا فقدنا هذه الزيارات لأنها لم تعد قادرة على الطبخ نسيت معظم طبخاتها..
وتفعل كل شيء ممكن أن يفسد علينا جلستنا العائلية.. طبعاً بدون أدنى وعي.. وعندما نبدي أي ردة فعل عنيفة او حزينة كانت تضحك ضحكة شبيهة بالانتقام وكأنها انتصرت علينا بتعذيبنا “حسب وصف الدكتور قال في أصوات بعقلها تأمرها تعمل هيك”
تهنا.. تعبنا.. بكينا. هلكنا.. سألنا نفسنا كثيراً لماذا أمنا هكذا. لماذا هذا الاختبار لنا. وهل سنتحمل هذا العبء
أصبحنا نقارن حالنا ووضعنا بالأطفال الآخرين ونحسدهم على أمهاتهم..
وكنا في مرحلة عمرية حرجة بحاجة لأم لسند لعامود البيت..
اعتزلنا الناس.. لم يعد لدينا أي رغبة بمعرفة جديدة او مقابلة ناس جدد..
كنا نسافر في الاجازات الفصلية للأردن بلدنا الام..
وكان أغلب الأقارب يلاحظون التغيير الحاصل معها
منهم من قال لوالدي تحمل..
ومنهم من قال فلتذهب لبيت أهلها..
ومنهم من قال قدر الله وما شاء فعل اكسب فيها أجر وأسكنها في بيت لوحدها. وتزوج الشرع بحللك أربعة..
نمط حياتنا وأكلنا وشربنا ولبسنا أصبحت نظام يضعه من حولنا ويتدخل به الجميع..
لماذا؟ لأنه لا يوجد لدينا أم..
اصبحت حياتنا لعبة بيد الكل.. ومجال التحكم بنا سهل جدا بحجة أنه”يا ويلي عليهم إمهم مريضة”
ونحن كنا نتخبط
بين عدو ومحب..
بين عقرب وقريب..
بين مرض وأم..
أكثر عبارة كنت أكرهها في حياتي
“أنا متل إمك ” حتى لو كانت تقال بحسن نية..
لا.. لا أحد مثل أمي ولا أحد يغطي مكان أمي ولا أحد سيحبنا مثل أمي..
وصلت مرحلة مرضها لأعلى درجة من النفور العام..
دخلنا في نفق لا ضوء فيه.. معتم مظلم جدا. نفق أينما التفتنا فيه صدمنا بجدار لا مخرج منه..
وهنا بقرار من الوالد وبين ليلة وضحاها..
قرر الوالد بالاتفاق مع عمتي في الأردن أن ينقل إقامتنا من الامارات للأردن وهو يبقى في عمله. وكل ستة أشهر يأتي اجازة أسبوعين..
وبهذا القرار العشوائي..
من أب ظن في قرارة نفسه أنه يتخذ قراره الصحيح لمصلحة أولاده، بعد ان عادوه اهل المنطقة.. ووصلت شكاوى أصدقائه في العمل من زوجاتهم..
قرر أن يضعنا بأقرب طيارة لنسافر إلى بلد معلوم اسمها لكن قدرنا مجهول فيها… لننقل حياتنا من الإمارات.. للأردن..
مدرسة ونظام وحياة جديدة..
ومن مبدأ إن بليتم فاستتروا على الأقل ستبقى حالات امي الذهانية ضمن نطاق العائلة..
بدأنا برحلة جديدة لكن هذه المرة بغياب الوالد.. وأم في رحلة ذهانيه
يتبع…