كان روتين التدريب المنزلي لعبد الرحمن، طفلي الذي يعاني من التوحد ينقسم لمرتين يومياً، أنفرد معه في غرفة وأغلق الباب لنصف ساعة، هي أقرب للصراع منها إلى التعليم أو النقاش. احتاج لبعض الوقت قبل أن نكتشف كلينا عشقه للغة العربية، والحساب، إلا أن عملية التعليم كانت لا تزال صعبة، ففي كل مرة وفي كل جلسة كنت أعاني من صعوبة التعامل معه، ومن ضرباته القوية، وحذفه للأدوات. كنت أخرج من تدريبه باكيةً، منهكة القوى، كان يمتص ما أملك من طاقة وقوة، ويتركني لعذاب الضمير وشعوري بالتقصير في حق بقية أخوته.
كان كل من حولي ومن ضمنهم زوجي يعاتبونني على الجهد الذي أبذله في تعليمه، ويخبرونني بأنه لا فائدة مما أقوم به. ولكنني أصررت، واستمررت في مسيرتي بخطى ثابتة نحو هدفي. وهدأ عبد الرحمن، لا زال صعباً، إلا أنه بدأ يحب التعلُّم، واكتشفت أنني كل ما جهزت نفسي وأدواتي مسبقاً بشكلٍ أفضل، كلما أصبحتُ أقوى من عناده.
وكان التحضير المسبق للأدوات واختيار ما يجذبه منها هو عدتي الأولى في مواجهة صعوبة طبعه، ومع الوقت اكتشفت صفتين جديدتين وجميلتين في ولدي، وهما غيرته، وحبّه للتعلّم بالرغم من صعوبة طبعه. وبدأت باستخدام هذه الصفات لصالحي، ولتحفيزه على التعليم والتدريب. ففي كل مرةً كان يواجهني بالرفض وصعوبة الطباع كنت امتنع عن تدريبه، وأغلق الباب على نفسي ولا أسمح له بالدخول إلا بعد إصراره على ذلك، وعندها فقط نتابع الدرس ويستمع إليَ بهدوء ويتجاوب معي.
أما الغيرة فقد كانت ملاذي الأخير، فكنت استخدمها بعض الأحيان لأجذبه للتدريب، بأن أبدأ بتدريب أخاه الأصغر، فعندها يغار عبد الرحمن ويقترب منا ويبدأ التدريب بدون أي مقاومة. لم يكن عبد الرحمن يتحدث بعد في هذه المرحلة، إلا أن روحي اتصلت بروحه، وكنت أفهمه ويفهمني، بدون أي كلمات.
تعليمي لعبد الرحمن كان يسير وفق خطة ومنهج وضعته أنا لنفسي، ففي كل شهر كنتُ أكتب ما أريد أن أعلمه، وأضيف إلى مذكراته مع الخطة الأشياء التي استصعبها، والأسباب التي أتوقع أنه استصعبها لأجلها، وما الذي يحبه ويجذبه أكثر، وكنت أحرص على التنويع في أساليب التدريب حتى لا يمل، وكنت أتقصد إشعاره بالغرابة والمتعة والتحدي، ومع الوقت أصبح أكثر هدوءًا رويداً رويداً.
التعليم الأكاديمي وقدرة أطفالنا على الكتابة تعطيهم فخر وثقة وفرحة بالإنجاز، وبالقدرة على العمل. بدأ عبد الرحمن يكتب، ويحسب، وكان سر نجاحنا التوكل على الله والثقة به، والإصرار على العمل اليومي بنظام، وتحضير، وخطة، ومتابعة للنتائج والتعديل. لا زلنا نتدرب يومياً حتى هذه اللحظات، وأدواتنا هي الخطة الشهرية والأسبوعية، ومذكرات الصعوبات والمزايا.
أنا فخورة بعبد الرحمن فهو يتحدى معي صعوبات التوحد وسلوكياته، ويريد أن يصبح أفضل اقوى، لقد تغير فعلاً وصار يعي ويكتب، يجمع ويضرب، حتى أنا لم أتوقع الوصول إلى هنا في البداية، ولكن المشوار لم ينتهي بعد ونحن مستمرون فيه بإذن الله حتى نصل لنجاح أكثر وأكثر في كل يوم.
نصيحتي لكل أمهات أطفال التوحد، بتحدي الصعّاب، والإصرار على نجاح أطفالهم مهما كانوا يواجهون من تحديات، فبالرغم من شح المراكز التدريبية في بلادنا إلا أن الإنترنت مليء بالمعلومات والأساليب والفيديوهات المفيدة، والخلاقة لطرق وأساليب تمكنهن من تنمية قدرات أطفالهن، وتحقيق التطور والنجاح.
إنها رحلة البدايات والمراحل الصعبة، لكنها جميلة ورائعة بالتفاؤل، وتستحق كل شيء ..فهل تحاولون مثلي؟
اعرفي المزيد عن تجربة عبد الرحمن وأمه ومشوارهم مع التوحد في المقالات السابقة تجربة أم عبد الرحمن: العلامات المبكرة للتوحُّد
و رحلتي مع طفلي التوحدي الجزء 1: البدايات دائماً صعبة لكننا ننطلق بقوة وتفاؤل